فصل: تفسير الآيات (1- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (15- 30):

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته، {فَقَدَرَ} شامي ويزيد {فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ} أي الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة، وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر، قال: ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر، قال: ربي أهانني فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها، فرد عليه زعمه بقوله {كَلاَّ} أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان، وقوله تعالى: {فَيَقُولُ} خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، وكذا {فَيَقُولُ} الثاني خبر لمبتدأ تقديره: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه. وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع، ونحوه قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. وإنما أنكر قوله {رَبّى أَكْرَمَنِ} مع أنه أثبته بقوله {فَأَكْرَمَهُ} لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له لاستحقاقه كقوله {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه.
{بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين {وَتَأْكُلُونَ التراث} أي الميراث {أَكْلاً لَّمّاً} ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم {وَتُحِبُّونَ المال} يقال حبه وأحبه بمعنى {حُبّاً جَمّاً} كثيراً شديداً مع الحرص ومنع الحقوق، {رَبِّى} حجازي وأبو عمرو {يكرمون} {وَلاَ يحضون} {وَيَأْكُلُونَ} {وَّيُحِبُّونَ} بصري {كَلاَّ} ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة فقال: {إِذَا دُكَّتِ الأرض} إذا زلزلت {دَكّاً دَكّاً} دكاً بعد دك أي كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً.
{وَجَآءَ رَبُّكَ} تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه {والملك صَفّاً صَفّاً} أي ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس {وَجِاْئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قيل: إنها برزت لأهلها كقوله: {وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91]. وقيل: هو مجرى على حقيقته ففي الحديث: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} أي يتعظ {وأنى لَهُ الذكرى} ومن أين له منفعة الذكرى؟ {يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} هذه وهي حياة الآخرة أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية.
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي لا يتولى عذاب الله أحد لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم {وَلاَ يُوثِقُ} بالسلاسل والأغلال {وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قال صاحب الكشاف: لا يعذب أحد أحداً كعذاب الله ولا يوثق أحد أحداً كوثاق الله. {لاَّ يُعَذِّبُ} {وَلاَ يُوثِقُ} علي وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف وهو الكافر. وقيل: هو أبي بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده.
ثم يقول الله تعالى للمؤمن {ياأيتها النفس} إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو يكون على لسان ملك {المطمئنة} الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهي النفس المؤمنة، أو المطمئنة إلى الحق التي سكّنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك. ويشهد للتفسير الأول قراءة أبي {يأَيَّتُهَا النفس الآمنةالمطمئنة} وإنما يقال لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة {ارجعى إلى} موعد {رَبِّكِ} أو ثواب ربك {رَّاضِيَةٍ} من الله بما أوتيت {مَّرْضِيَّةً} عند الله بما عملت {فادخلى في عِبَادِى} في جملة عبادي الصالحين فانتظمي في سلكهم {وادخلى جَنَّتِى} معهم. وقال أبو عبيدة: أي مع عبادي أو بين عبادي أي خواصي كما قال: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19]
وقيل: النفس الروح ومعناه فادخلي في أجساد عبادي كقراءة عبد الله بن مسعود {فِي جسد عبدي} ولما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل في نعشه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ولم يدر من تلاها. قيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب. وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله. وقيل: هي عامة في المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 20):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
{لآ أُقْسِمُ بهذا البلد} أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق. واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} أي ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد يعني مكة كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه فقال: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}. أي وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ونظير قوله {وَأَنتَ حِلٌّ} في الاستقبال قوله: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 30]. وكفاك دليلاً على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق، وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} هما آدم وولده، أو كل والد وولده، أو إبراهيم وولده، و(ما) بمعنى (من) أو بمعنى (الذي) {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} جواب القسم {فِى كَبَدٍ} مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعن ذي النون: لم يزل مربوطاً بحبل القضاء مدعواً إلى الائتمار والانتهاء. والضمير في {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، ثم قيل هو أبو الأشد. وقيل: الوليد بن المغيرة. والمعنى أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتصعب للمؤمنين أن لن تقوم قيامه ولن يقدر على الانتقام منه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي كثيراً جمع لبدة وهو ما تلبد أي كثر واجتمع، يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً يعني أن الله تعالى كان يراه وكان عليه رقيباً. ثم ذكر نعمه عليه فقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} يبصر بهما المرئيات {وَلِسَاناً} يعبر عما في ضميره {وَشَفَتَيْنِ} يستر بهما ثغره ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ {وهديناه النجدين} طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار وقيل الثديين.
{فَلاَ اقتحم العقبة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} يعني فلم يشكر تلك الآيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب أو إطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير، بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله لا أن يهلك ماله لبداً في الرياء والفخار. وقلما تستعمل (لا) مع الماضي إلا مكررة، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسر اقتحام القبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد (لا) ثلاث مرات وتقديره: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا آمن. والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والقُحمة الشدة فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. والمراد بقوله {مَا العقبة} ما اقتحامها ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. وفك الرقبة تخليصها من الرق والإعانة في مال الكتابة.
{فَكَّ رَقَبَةً * أَوْ إِطْعَامٌ} مكي وأبو عمرو وعلي على الإبدال من اقتحم العقبة، وقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} اعتراض. غيرهم {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ} على: اقتحامها فك رقبة أو إطعام. والمسغبة المجاعة، والمقربة القرابة، والمتربة الفقر، مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فيكون مأواه المزابل ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همٌّ ناصب أي ذو نصب. ومعنى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} أي داوم على الإيمان. وقيل: (ثم) بمعنى الواو. وقيل: إنما جاء ب (ثم) لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} بالتراحم فيما بينهم {أولئك أصحاب الميمنة} أي المصوفون بهذه الصفات من أصحاب الميمنة {والذين كَفَرُواْ بئاياتنا} بالقرآن أو بدلائلنا {هُمْ أصحاب المشئمة} أصحاب الشمال والميمنة والمشأمة اليمين والشمال، أو اليمن والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهن {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدةٌ} وبالهمز: أبو عمرو وحمزة وحفص أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وأغلقته والله أعلم.

.سورة الشمس:

.تفسير الآيات (1- 15):

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}
{والشمس وضحاها} وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها {والقمر إِذَا تلاها} تبعها في الضياء والنور وذلك في النصف الأول من الشهر يخلف القمر الشمس في النور {والنهار إِذَا جلاها} جلى الشمس وأظهرها للرائين وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر كقوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] {واليل إِذَا يغشاها} يستر الشمس فتظلم الآفاق. والواو الأولى في نحو هذا للقسم بالاتفاق، وكذا الثانية عند البعض. وعند الخليل: الثانية للعطف لأن إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز، ألا ترى أنك لو جعلت موضعها كلمة الفاء أو (ثم) لكان المعنى على حاله؟ وهما حرفاً عطف فكذا الواو. ومن قال: إنها للقسم احتج بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين، لأن قوله {واليل} مثلاً مجرور بواو القسم و{إِذَا يغشى} منصوب بالفعل المقدر الذي هو أقسم فلو جعلت الواو في {والنهار إِذَا تجلى} للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جراً، و{إِذَا تجلى} معطوفاً على {إِذَا يغشى} نصباً فصار كقولك: إن في الدار زيداً أو في الحجرة عمراً. وأجيب بأن واو القسم تنزل منزلة الباء والفعل حتى لم يجز إبراز الفعل معها فصارت كأنها العاملة نصباً وجراً، وصارت كعامل واحد له عملان، وكل عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحد بالاتفاق نحو: ضرب زيد عمراً وبكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، فكذا هنا.
و(ما) مصدرية في {والسماء وَمَا بناها * والأرض وَمَا طحاها * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي وبنائها وطحوها أي بسطها وتسوية خلقها في أحسن صورة عند البعض وليس بالوجه لقوله {فَأَلْهَمَهَا} لما فيه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة وإنما أوثرت على (من) لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها. وإنما نكرت النفس لأنه أراد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم كأنه قال: وواحدة من النفوس، أو أراد كل نفس، والتنكير للتكثير كما في {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فأعلمها طاعتها ومعصيتها أفهمها أن أحدهما حسن والآخر قبيح {قَدْ أَفْلَحَ} جواب القسم والتقدير: لقد أفلح، قال الزجاج: صار طول الكلام عوضاً عن اللام. وقيل: الجواب محذوف وهو الأظهر تقديره ليدمدمن الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً، وأما {قَدْ أَفْلَحَ} فكلام تابع لقوله {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء {مَن زكاها} طهرها الله وأصلحها وجعلها زاكية {وَقَدْ خَابَ مَن دساها} أغواها الله، قال عكرمة: أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس أغواها الله.
ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسّى دسس، والياء بدل من السين المكررة.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم {إِذِ انبعث} حين قام بعقر الناقة {أشقاها} أشقى ثمود قدار بن سالف وكان أشقر أزرق قصيراً. و(إذ) منصوب ب {كَذَّبَتْ} أو بالطغوى {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله} صالح عليه السلام {نَاقَةُ الله} نصب على التحذير أي احذروا عقرها {وسقياها} كقولك: الأسد الأسد {فَكَذَّبُوهُ} فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا {فَعَقَرُوهَا} أي الناقة أسند الفعل إليهم وإن كان العاقر واحداً لقوله: {فَنَادَوْاْ صاحبهم فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29]. لرضاهم به {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أهلكهم هلاك استئصال {بِذَنبِهِمْ} بسبب ذنبهم وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة {فَسَوَّاهَا} فسوى الدمدمة عليهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم {وَلاَ يَخَافُ عقباها} ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة أي فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد كما يخاف من يعاقب من الملوك، لأنه فعل في ملكه وملكه {لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {فَلاَ يَخَافُ} مدني وشامي.